"هيدا العربي ما بيفيد"
زياد الرحباني الذي لم يكن تلميذًا مجتهدًا في مدرسة السيّدة، الجمهور، كان يعلم أنّ اللغة العربيّة التي أصدر بها مجموعته الشعريّة الوحيدة وهو في الرابعة عشرة من عمره، ويقال أنّه كتبها قبل ذلك، لن تشفع له في التقييم المدرسيّ. ولعلّ هذا الأمر ساهم في ترسيخ فكرته عن أنّ "العربي ما بيفيد". فليس ديوانه اليتيم هو ما جعله يترفّع صفوفًا بل ربّما لكونه ابن عاصي وفيروز أو لأنّه كان "يخلّص حالو" في مواد أخرى. لكنّه بتأثير وعيه السياسيّ لم يجنح نحو الفرنسيّة في أغنيته "إسمع يا رضا"، وهي اللغة الأساس في تلك المدرسة، بل نحو الإنكليزيّة، لغة العالم الجديد الذي بدأ يتكوّن ويلقي باستعماره على هذه القرية الصغيرة التي اسمها الكرة الأرضيّة. فجاءت عبارة "دوّر لندن من عشيّة، ميري بتهجّي وبتعيد" دليل حدس بسيطرة هذه اللغة على وسائل التواصل الاجتماعيّ بعدما هيمنت على السياسة والاقتصاد، مستفيدة كذلك من دعم السينما والأغنيات. وهذا ما أعاد زياد الرحباني التأكيد عليه ساخرًا في مسرحيّة "شي فاشل" حين كانت الصحافيّة تجري معه وهو في شحصيّة المخرج "نور" حوارًا باللغة الفرنسيّة، فكان يجيب بمزيج من الفرنسيّة المكسّرة والعربيّة، فقالت له الصحافية "مارو" (تذكير بميري اللي بتهجي وبتعيد): نور ليش عم تحكي فرنساوي؟ احكي عربي وأنا بعدين بظبّطهن. فيقول لها نور: لا. أنا بحكي فرنساوي، يعني. بس ناسي (ويضحك). وقد يكون هذا النسيان للغة مستوحى من وضع عاصي الرحباني بعد الجلطة الدماغيّة ونسيانه لغة كان من أسيادها. ويروى أنّه حين كان يتعلّمها قيل له إنّه يعرف هذه اللغة وكان يجيدها أجاب: ما دام كنت بعرفا علّموني لغة تانيه.
تلامذة اليوم وإن كانوا لا يحلّلون الأمور بهذه الطريقة، يعرفون أنّهم سيترفّعون صفًا ولو رسبوا في مادّة اللغة العربيّة.
السؤال الأوّل الذي سنحاول الإجابة عنه هو: لماذا يكره التلامذة اللغة العربيّة؟
والجواب بسيط ومباشر: لأنّ النصوص طويلة ومملّة ولا تعالج مسائل تعني المتعلّمين، خصوصًا في صفوف الحلقة المتوسّطة وصولًا إلى البريفيه، وكذلك في الصفوف الثانويّة؛ ولأنّ طرائق التدريس لا تزال قائمة على التكرار والتلقين وتشريح النصّ بشكل يجعله أشبه بملكة جمال نعرف أنّها أجمل نساء الأرض، لكنّها متى خضعت لمشرط الطبيب الشرعيّ تشوّه جمالها وتقطّعت أوصال الفتنة فيها.
إنّ كثرة التحليل وتخصيص حصص كثيرة لنصّ واحد أمران قاتلان للجمال الفطريّ والدهشة البكر.
السؤال الثاني: لماذا يبتعد طلّاب الجامعات عن التخصّص في اللغة العربيّة وآدابها؟
والجواب أيضًا سهل وتلقائيّ وإن كان فيه جملة عناصر: لأنّ سوق العمل لا يحتاج إلى هذه اللغة، ولأنّ المستوى الاجتماعيّ لمعلّمي هذه اللغة صار أدنى من مستويات معلّمي المواد الأخرى. وهذا أمر يلحظه كلّ من علّم هذه المادّة، منذ زمن بطرس البستانيّ وأقرانه، عهد كان الناس يحترمون الأدب والأدباء، إذ تراجع احترام الإدارة والأهل لهم، وبالتالي لا سلطة ولا "وهرة" لمدرّسيها. فلماذا يختارها الطالب الجامعيّ؟ وهنا لا بدّ من استثناء محبّيها الذين يختارونها رغبة منهم في التمكّن من تاريخها وأساليب استخدامها ومسار تطوّرها.
لكن من المهمّ، ونحن نعالج هذه المسألة أن نلحظ جملة أمور: أوّلها أنّ وضع اللغة العربيّة يختلف بين منطقة وأخرى، وبين طبقة اجتماعيّة وأخرى، وبين طائفة وأخرى إذ ابتعد عنها مسيحيّو المدن حين ابتعدوا عن تاريخ حمايتهم لها من التتريك، عهد السلطنة العثمانيّة. بينما اقترب منها مسلمو القرى والريف لكونها لغة الدين والصلاة. وابتعد عنها أبناء الطبقات الثريّة لأنّها لا تخدمهم، واقترب منها أولئك الراغبون في التعليم أو الالتحاق بوظائف الدولة وعليهم أن ينجحوا في امتحانات مجلس الخدمة المدنيّة.
وفي هذا المجال أورد حادثتين من خبرتي في التعليم وتنسيق الدروس في ثلاث مدارس كاثوليكيّة:
الحادثة الأوّلى: حين استقبلت المدرسة طلّابًا سوريّين آتين من مدارس خاصّة في بلدهم، تفوّق أحدهم في الامتحانات الرسميّة لشهادة البكالوريا، وحلّ بين العشرة الأوائل على صعيد لبنان. وكان هذا التصنيف هو الأوّل من نوعه في مدرسة تخطّى عمرها الربع قرن. حينذاك طلبت من مجلس إدارة المدرسة تحليل الأمر وأنا أعرف مسبقًا سببه. فلقد أظهرت النتائج أنّ سائر التلامذة قد حازوا علامات مشرّفة في سائر المواد، لكنهم أخفقوا في مادة لا يحبّونها ولا يتخاطبون بها لا في البيت ولا في المدرسة، ما كان يعيق منذ تأسيس المدرسة تفوّق أحد تلامذتها.
الحادثة الثانية تتعلّق بوالدين قصداني طالبَين مني التشديد على دور اللغة العربيّة. فأحلتهما إلى لجنة الأهل والمدراء الذين يعتبرون أنّني متطلّبة، مع العلم أنّني لست أصوليّة المنحى في عملي. فأوضحا لي أنّهما مشرفان على اختبارات القبول في مجلس الخدمة المدنيّة، وأنّ تلامذة المدارس الكاثوليكيّة يرسبون في اللغة العربيّة لأنّهم لا يفهمون الأسئلة. وبالفعل حين اطّلعت على نماذج من أسئلة الامتحانات تأكّد لي أنّ أكثر التلامذة اجتهادًا لن يفهم المطلوب منه، وبالتالي سيرسب.
فبمعزل عن كون اللغة العربيّة هي لغة الدولة الرسميّة، وبعيدًا من أنّها لغة أدبائنا ومفكّرينا، فإنّ إهمالها قرار يتّخذه الأهل الذين يبدأون بالتخاطب مع أطفالهم باللغات الأجنبيّة، ثمّ هو قرار تتّخذه المدارس حين تصنّف هذه اللغة معتبرة إيّاها غير محتسبة في امتحانات الدخول أو في الترفّع من صفّ إلى صفّ، وأخيرًا هو منحى اختاره مجتمع لا هويّة واضحة له، متفرنج، يعتبر اللغة العربيّة ميتة جامدة لا تواكب العصر.
إنّ دراسة اجتماعيّة عمليّة إحصائيّة عادلة قد تظهر أمرين أساسيّين:
إنّ تلامذة ما قبل زمن المساعِدات الأجنبيّات في البيوت كانوا أكثر قربًا من اللغة العربيّة. فكيف نطلب من طفل أن ينطق بالعربيّة أو يفهمها، في حين أنّ مربّيته الفليبينيّة تخاطبة بالإنكليزيّة، وأمّه تتكلّم معه بالفرنسيّة، والمدرسة تدرّسه طيلة النهار بلغة أجنبيّة، ولا يبقى للغة العربيّة الفصحى سوى حصص أسبوعيّة قليلة، يتعلّم فيها الطفل لغة لن يستخدمها أو يسمعها إلّا في الصفّ، ولا تشبه المحكيّة اللبنانيّة التي يسمعها من جدّيه وعمّاته وخالاته؟ ولن ننسى طبعًا أنّ الزواج من أجانب سيساهم في توسيع الفجوة.
أمّا الأمر الثاني فهو أنّ المسلسلات وبرامج الأطفال تخلّت عن الفصحى. وهذا أمر يُحسب لتلفزيون لبنان ومسلسلاته وبرامجه التي كانت تقبل عليها البلدان العربية وتشتريها لجودة مضمونها وحسن سبكها اللغويّ. ولا ننسى دور الإذاعة اللبنانيّة التي حرصت على استخدام الفصحى وأظهرتها في أبهى حلّة.
قد يكون الارتقاء باللغة العربيّة من حضيض مستواها بسيطًا وسهلًا، يبدأ في الحلقة الأولى من التعليم الأساسيّ، وينتهي بحفل التخرّج: إذ يكفي أوّلًا أن تعلن المدارس أنّ امتحان الدخول إليها، خصوصًا في الروضات والحلقة الأولى محصور باللغة العربيّة فقط لا غير، وعلى الأطفال أن يعرفوا أسماء الألوان والأشكال وأيّام الأسبوع والأشهر بهذه اللغة مع إجادة لفظ أحرفها. وأن تقرّر المدارس أنّها ستستضيف في حفلات التخرّج شاعرًا أو روائيًّا أو صحافيًّا أو مسرحيًّا من أرباب اللغة كتابة ونطقًا، فأكثر المدارس يستضيف سياسيّين أو رجال أعمال أو نجوم تلفزيون لا يجيد أحدهم الفصحى.
لقد أثبتت لي خبرتي في التربية والتعليم أنّ المتفوّق في اللغة العربيّة سيبرع في أكثر المواد صعوبة، لأنّ هذه اللغة تجمع بين المنطق والجرْس الموسيقيّ، وأنّ تكريم أعلامها واجب وطنيّ. وإلّا فعلى لغتنا السلام ومن الأفضل اعتبارها لغة أجنبيّة اختياريّة، فعلى الأقل لن يكون كارهوها عبئًا على الصفّ، ولن تأتي الأمّهات طالبات توزيع الأحرف الهجائيّة "على ثلاث سنوات لأنّو العربي صعب".